لماذا نكتب؟

د. ميّاسة سلطان السويدي

«عندما لا تجد أحدًا يسمعك، اكتب، فالورقة كفيلة بأن تنصت لك»، هكذا كان ينصح وليام شكسبير الكاتب والشاعر الإنكليزي باستفراغ حديث النفس والكتابة على الأوراق التي قد تجيد السمع أكثر من البشر بمراحل، فنحن نكتب عزاءً لذاتنا وأحيانا للتنفيس عما يخالجنا من هموم وأفكار وخواطر وتساؤلات ولنريح ضمائرنا المثقلة، أو قد نكتب لأننا أعلنا التمرد على عقولنا المنطقية واخترنا الخيال وبعضاً من الجنون على صفحات خيالية بحثاً عن الإبداع، وأجدني أتساءل: ما الذي قد يدفع الكاتب لتقييد أفكاره أو تكبُّد عناء كتابة رواية ما أو مقال قد لا يهتم به أحد، فهل الكتابة واجب إنساني أو مهمة اجتماعية؟ فرانز كافكا يقول: «الكتابة تكليف لم يُكلفني به أحد»، إذن لماذا نكتب؟

 

قد يبدو السؤال سهلاً لكنك حين تبدأ البحث عن الإجابة بين الكتب أو تجرب سؤال صديقنا غوغل ستحظى بصفحات ومقالات وعناوين كثيرة، فقد تم طرح هذا السؤال الذي يبدو بسيطاً على الكتاب الكبار الذين ترجمت كتبهم للغات عدة وبيعت بملايين النسخ وحصلوا على العديد من الجوائز.

الكاتبة ميريديث ماران جمعت تلك المقابلات الصحافية في كتاب بعنوان «لماذا نكتب؟» لتدهش باختلاف الدوافع والردود والأمزجة، حيث تحدثت مع كتابها عن الجانب غير المحبب في حياة الكاتب وعن أفضل اللحظات وطقوس الكتابة الخاصة بكل منهم، فالكتابة فعل شخصي وفردي خاص جداً، تنبع من قرار ذاتي فلا أحد يستطيع أن يجبرك عليها ما لم تحمل رغبة صادقة وقوية لمواجهة ورقة بيضاء وقلم، وربما في وقتنا الحالي لوحة مفاتيح وشاشة، فالكاتب يدخل طوعاً إلى متاهة الكتابة الغامضة، وقد صرحت إليف شافاق الكاتبة التركية في أحد لقاءاتها القديمة أنها كانت طفلة خجولة انطوائية عاشت في مجتمع محافظ، لكنها عبرت البوابة الخفية داخل رتابة الحياة اليومية إلى عالم القصص والكتابة، ورافقت الكتب التي أنقذتها من الغضب والجنون وتدمير الذات وعلمتها الحب، فقرأت بنهمٍ وشوقٍ فأنقذتها الكتابة من تدمير نفسها ووهبتها النجاح في عالم الكتابة.

رغبة ذاتية

لماذا نكتب؟ سؤال يشغل الكثير من المهتمين بموضوع الكتابة؛ لأنه يخاطب دواخل المبدع، فهل الكتابة شأن شخصي خاص بالكاتب ذاته كما قال كافكا، أي إن الكتابة ببساطة رغبة ذاتية فقط للبوح بآلام الروح والتحليق بخيالنا والإفلات من سجن الجسد؟ هل نكتب رغبة في الخلود؟ فالبعض قد لا يريد أن يموت منسياً فيحرص على اسمه وحرفه مكتوبين في التاريخ، أو ربما يبحث الكاتب عن شيء مفقود؟ فهل نبحث عن ذاتنا من خلال ما نحاول كتابته؟ وما قيمة كل تلك الأسئلة ما لم نبحث عن إجابات حقيقية وواقعية وصادقة، أن نبحث عن الجذور ونغوص في أعماق النفس البشرية، ونبحث عن الدوافع الكامنة في نفس الكاتب أو المبدع بشكل عام، نبحث عن الأسباب الحقيقية التي تحمله على تكبد العناء وتحمل الصعاب وقضاء الأوقات الطويلة، وبذل الجهد في خلق الإبداع الخاص به، ففعل الكتابة ليس سهلاً، يحتاج إلى محاولات دؤوبة لإعادة الصياغة والتعبير عن شيء ما في نفسك، وقد لا تجد كلمات مناسبة لوصفه فتبقى في حالة ترقب للإلهام أو البحث بداخلك وبين الصفحات حتى تجد كلمتك أو فكرتك المنشودة.

هوية الكتابة

الكتابة أكبر من مجرد مهنة أو هواية، بل هي اشبه بهوية، ديفيد بالدتشي كتب أفضل رواياته عندما كان محاميا وهو روائي أميركي يكتب للشخص الذي يعرفه جيداً، فهو يكتب لنفسه، ترجمت رواياته إلى ٤٥ لغةً، وبيعت في ٨٠ دولة، وطُبع منها أكثر من ١١٠ ملايين نسخة، ورغم كل هذا الانتشار فهو يكتب لنفسه! وصرح «أتعلمون من يفوز في المحكمة؟ الموكل الذي يمثله محامٍ يروي قصصًا أفضل من المحامي الآخر، فأنت عندما تقوم بدعوى قضائية لا يمكنك تغيير الحقائق، يمكنك فقط إعادة ترتيبها لتدعم موقف موكلك».

محمد علي اليوسفي روائي وشاعر من تونس واجه صعوبة في تحديد دوافع الكتابة بعد التورط فيها، ففي البدء يكون كل شيء بالنسبة إليه انفتاحا، وتكون الكتابة بحثا عن الحلم والأمل المطلق ثم يتعرى كل شيء مع تقدم التجربة والعمر، وتبقى الكتابة لأنها التصقت به كوظيفة (كدور الممارسة) ثم تلوح له كعزاء، ثم رثاء لما بعد الموت، الكتابة بالنسبة إليه إخراج لتلك المشاعر والأفكار إلى حيز بعيد عن التوتر وقريب من لعبة التشكل والوجود، أي إفراغ الامتلاء، وصولاً إلى خواء جديد يعاد البحث عن ردمه، ويتساءل في شهادة نشرتها جهة الشعر عن الكتابة: هل الكتابة مهنة كغيرها من المهن؟ هل هي حب؟ أم أنانية؟ أم مجرد رغبة في الخلق، ربما الانتقام والقتل، يطرح أسئلته ثم يخاف ويتحفظ عن الإجابة؛ لأن الكتابة أكبر من كل ذلك كما ورد في شهادته.

دوافع الاستمرار

في العصور السابقة كانت هناك قيمة أكثر للكتاب والروائيين، ذيوع صيتهم وخلودهم في التاريخ، فكثير من النقاد يعتقدون اعتقاداً صادقاً أن مهمة الفن والأدب تخليد الانسان، لكن في عصرنا الحالي مع انتشار منصات التواصل الاجتماعي وعزوف الكثيرين عن القراءة والتوجه إلى الكتب الإلكترونية، ما الذي يدفع الكتاب حقاً إلى الاستمرار، هذا السؤال الذي جعلني أبحث وأتساءل وأستطلع في المزيد من الكتب التي تعنى بموضوع الكتابة ودوافعها المختلفة، وجدت في مكتبتي العامرة كتباً تناقش موضوع الكتابة فاستعنت بها في كتابة هذا المقال، مثل كتاب جورج أوريل (لماذا أكتب؟) وكتاب (أسئلة الكتابة لموريس بلانشو) وكتاب (الزن في فن الكتابة) للكاتب راي برادبيري، (كتاب الكتابة) للكاتب إبراهيم نصر الله، إضافة إلى مجموعة من المقالات المترجمة عن الكتابة والكتاب بعنوان (حياة الكتابة).

جوهر الوجود

غيش جين روائية أميركية تمارس الكتابة بدلاً من ممارسة العيش فتقول: «الكتابة هي جزء جوهري من وجودي في هذا العالم، فالأكل والنوم والكتابة أمور تسير جنباً إلى جنب، إنني لا أفكر لماذا أكتب أكثر مما أفكر لماذا أتنفس، وإن غياب الكتابة أمر سيئ كما هو عدم التنفس»، انها تصرح أن كل لحظة يقضيها الشخص في حياته الواقعية هي لحظة مهدورة من حياته الكتابية، والعكس صحيح، فهي تعاني من ثقل الحياة اليومية شأنها شأن الكثيرين من الكتاب، فهي من خلال الكتابة تتعرف على نفسها وعلى العالم من حولها، ترى الأفكار وهي تذوب أسفل القلم، تتعقب الحبكة وتمتطي الخيال، أما الكاتبة كاثرين هاريسون التي تمنحها الكتابة نوعاً من الرضا فتقول: «أكتب لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي أعرفه.. والذي يمنحني الامل بكوني جديرة بالمحبة».

طقوس الكتابة

ايزابيل الليندي تصرح أن الجزء الاجمل في الكتابة هو العثور على الكنوز المخبأة وإعطاء الاحداث البالية بريقا خاصا، فالكتابة تنعش الروح المتعبة بالخيال وتخلق حقيقة معينة من أكاذيب كثيرة، فهي لا تستطيع رسم حد فاصل بين الواقع والخيال في كتبها، وتصرح أنها سابقا كانت تدعى بالكاذبة والآن أصبحت تكسب من هذه الأكاذيب وصارت تدعى كاتبة، فهي تكتب لتلبي حاجة خاصة ذاتية يصعب التحكم بها، وهي الحاجة إلى سرد قصة ما لتنقذ ذكرياتها من لعنة النسيان وخلق عالمها الخاص، وبعد وفاة ابنتها باولا كانت الكتابة هي الشيء الوحيد الذي أبقاها سليمة العقل، فهي تصف الأسى الذي عانت منه وكأنه رحلة جحيم طويلة تشبه المشي وحيداً في نفق مظلم، وسيلتها الوحيدة التي تمكنها من المشي عبر ذلك النفق هي الكتابة كل صباح، واستمرت لفترة طويلة تسحب نفسها وتضيء شمعة وتغرق في البكاء وتكتب، كانت تريد أن تعيش من خلال فعل الكتابة، فكان كتابها علاجاً لروحها وتداوت من خلال الكتابة، فالكتابة تجعل روحها تغني وتشعرها بأنها شابة وقوية وجبارة وسعيدة وأن الحياة تصبح حقيقية حينما تكتبها، فما لا تكتبه تمحوه رياح النسيان فهي تكتب لأنها بحاجة لأن تتذكر.

استحضار الماضي

أورهان باموق روائي تركي حاز جائزة نوبل في الأدب عام ٢٠٠٦، يحاول استحضار الماضي الآخذ في التلاشي بلطف، حين بدأ تحضير نفسه لتأليف روايته (متحف البراءة) قام بجمع القطع الفنية لمتحف الرواية وبحث عن القصص في أسواق السلع القديمة ومتاجر الكتب المستعملة، ويصرح «لكي أكتب جيداً، لا بد أن أشعر بالملل حتى الجنون، لكني بذلك لا بد لي أن أدخل في الحياة».

رولان بارت الفيلسوف والكاتب الفرنسي الذي اتفق نخبة من المثقفين أنه العقل الأكبر الذي أنجبته الثقافة الفرنسية في العصر الحديث يجيب بصراحة عن دافعه للكتابة فيقول: «أكتب إشباعاً للذة الكتابة.. أكتب لأن الكتابة تخلخل الكلام وتهز الأفراد وتقوم بعمل نعجز عن تبين مصدره، أكتب كي أحقق موهبة وأنجز عملاً مميزاً، وأحقق اختلافاً وأكتب كي يعترف الناس بي وأكافأ وأكون موضع حب واحتجاج وتأييد وأكتب كي أنجز معالم أيديولوجية، أكتب إرضاء للأصدقاء ونكاية للأعداء».

ملاذ الوقت الضيق

إن الكتابة منذ الازل هي الطريقة المثلى للتعبير عن ذواتنا، فالكثير يكتم ما بداخله؛ لأنه لا يستطيع البوح ونقل إحساسه الصادق بكلمات تعبر عن حقيقة مشاعره، فتكون الكتابة هي الملاذ وقت الضيق، فالكتابة ضرب من العلاج النفسي، وأجدني أستحضر تساؤل غراهام غرين حين صرح: كيف لمن لا يكتب ولا يلحن ولا يرسم أن يهرب من الجنون، من الكآبة ونوبات الهلع المتأصلة في طبيعتنا الإنسانية، وحينما نقف حيال مؤلفات الكاتب والروائي الروسي فيودور دوستويفسكي، تكاثرت عليه والعواطف والأحاسيس التي جاشت بنفسه واستبدت به وغلبته على أمره، شعر بالعزلة ووجد السبيل إلى المتعة والترفيه عن نفسه بالانكباب على القراءة والكتابة، والغوص في مكنونات الطبيعة البشرية.

 

علاج ذاتي لبعث الدهشة

 

لا أعتقد أن مقالاً واحداً سيجيب هذا السؤال البسيط، لكن استعراض ما سبق يشير أن دوافع الكتابة كثيرة ومختلفة من كاتب لآخر، كما انها متحولة ومتغيرة بحسب المرحلة التي يمر بها الكاتب، فالكتابة وليدة لمشاعر متناقضة أحيانا وحصيلة لتجارب متراكمة، وحتما تكون هناك متعة خاصة بالكاتب وقد يشعر بحاجة ملحة للتعبير عن نفسه وأفكاره رغم صعوبتها وتعسر الالهام أحيانا لكن حين يمتزج بداخله الالهام والعمل الجاد والتدوين ولحظات الإلهام والتنقيح ورسم الشخصيات ودراسة ما يكتب ليساعده على فهم العالم من حوله، فالكتابة منجاة وعدم الكتابة بالنسبة للبعض تعني الموت، فالكتابة تمنح مزيجاً من الخيال وفسحة من الأمل وقد تكون علاجاً ذاتياً لبعث الدهشة وجعل الحياة الصعبة أسهل، فقد تتحرر من كل تلك التراكمات بداخلك لتصنع منها رواية أو قصة قصيرة أو حتى مقالاً منحوتاً بعناية يمنحنا الثقة ويبقينا على يقظة، ويجيب على بعض من أسألتنا التي لا تنتهي، لذا دعونا نكتب ونرتب أفكارنا من خلال الكتابة، نتعمق بها ونتعلم معها، نتوسع ونختصرها حتى نستوعبها دوماً وباستمرار وبكل حب وصدق ولتكون الكتابة سلاحنا الجميل الذي يمدنا بالأمل.

قالو في الكتابة

  • وليام شكسبير: عندما لا تجد أحدًا يسمعك، اكتب.. فالورقة كفيلة بأن تنصت لك
  • فرانز كافكا: الكتابة تكليف لم يُكلفني به أحد
  • إليف شافاق: الكتب أنقذتني من الغضب والجنون وتدمير الذات وعلمتني الحب
  • غيش جين: لا أفكر لماذا أكتب أكثر مما أفكر لماذا أتنفس.. فغياب الكتابة أمر سيئ كما هو عدم التنفس
  • كاثرين هاريسون: أكتب لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي أعرفه والذي يمنحني الأمل بكوني جديرة بالمحبة
  • إيزابيل الليندي: الجزء الأجمل في الكتابة هو العثور على الكنوز المخبأة وإعطاء الأحداث البالية بريقاً خاصاً
  • أورهان باموق: لكي أكتب جيدًا.. لا بد أن أشعر بالملل حتى الجنون لأدخل في الحياة
  • رولان بارت: أكتب لأن الكتابة تخلخل الكلام وتهز الأفراد، وتقوم بعمل نعجز عن تبين مصدره وكي أحقق اختلافاً وأنجز معالم أيديولوجية

أكاديمية وفنانة تشكيلية بحرينية

جريدة القبس – الملحق الثقافي

تقديم تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *