تجريد الأثر في أعمال التشكيلية البحرينية مياسة السويدي
سامي داود
ثمة تعارض بصري بالغ التعقيد في بعض التجارب المميزة داخل المنجز البصري الخليجي، يظهر كمواجهة بين عالمين غير متناظرين، لا حسياً ومفاهيمياً. فالفكرة النمطية المتعلقة بقوة الاستهلاك السائدة في المجتمع الخليجي، والمتحرك ضمن كتل معمارية ضخمة؛ تعارضها كثافات حسية دقيقة، تظهر كتجليات لعالم نقيض. كأنما الجانب الحسي في هذه المعطيات الجمالية هو المجموعة الحسية المفقودة لبيئة منبسطة في المدى وفي السطوع.
والأكثر تميزاً في البعض من هذه التجارب هو تأصيلها للشكل المحلي ضمن صياغات حداثوية تتجاوز قدرة التسمية على التأطير المدرسي. كأعمال السعودي أحمد ماطر الذي يفكر كالطائر وينظر كالمجهري، والذي يسقط هذه الآلية الرؤيوية عبر أعمال غاية في الدقة (مجموعة مغناطيس). وكذلك أعمال مواطنته شادية عالم التي قدمت أعمالاً تركيبية بليغة. طبعاً بالاشتراك مع أختها الروائية رجاء عالم. حيث الخرز في الحلي التقليدي يتحول إلى كرات متراصة إلى جانب مكعب انعكاسي في تجربة (الفلك الأسود) ومرآة بيضاوية ضخمة، تقدم الشيء في منتهى إمكاناته.
مع هذه المعيارية الفنية العالية يمكن العمل بشكل بسيط، لكن بعيداً عن الامتياز الفني المتعلق بالفرادة التكوينية والمفاهيمية. أو لا يمكن العمل إلا بهذه المعيارية العالية بالقرب من هذه الأعمال. ففي الخليج أيضاً -كبقية دول العالم- يقدم الفن عبر وسطاء كُثر. غير أن الكثير منه مجرد فرقعة دعائية. تسنده متانة الوسيط المؤسسي الذي يقدمه وليس العمل الفني بحد ذاته.
فقانون الحفظ الذاتي (دولوز وغوتاري) هو الركيزة التي يستمدها الفن من الأعمال التي تجعل الفن موجوداً كمؤثر حسي. وأن فكرة الزوال التي جلبتها الحداثة معها تنسجم فقط مع التكييف الذي فرضته الشروط التمويلية للفن المعاصر، بين الثقافة الجماهيرية والإنتاج الفني (جوليان ستالابراس/ الفن المعاصر. مقدمة قصيرة جداً).
إذن كل عمل فني هو موجود بذاته وبمعية الأعمال التي تضفي عليه سمة الشبه المعيارية. أن تكون موجوداً في فضاء فني مع مجموعة من الأعمال الفنية الأخرى، والتي تجعل الفن شيئاً ملموساً بالحس الدقيق، ذلك هو المسطح الذي تستقطع منه التجربة الفنية فنيتها.
التحرر من شرك الفن النسوي
في السياق ذاته، تأتي تجربة الفنانة البحرينية الدكتورة مياسة السويدي لتضيف إلى المنجز الخليجي تجربتها الفنية كتجارب ضمن التجربة، حيث تمكنت مؤخراً من التحرر كلياً من شرك الفن النسوي الذي لا أفهم خصائصه بالمطلق. ومتحررة أيضاً من المعالجة العامة لتلوين الشكل وترتيب الفراغ. وباتت وفقاً لحركة اللون وبنية الشكل في أعمالها الجديدة؛ طليقة الحركة مفهومياً، وكذلك في مستوى المعالجة الحسية للأشكال التي تضعها وتستكشفها في آن داخل اللوحة.
وقد خطت إلى الأمام خطوة ثابتة وجريئة في مجموعة الأعمال التي قدمتها تحت عنوان (الساعة الخامسة والعشرون)، وذلك من خلال الاشتغال على الملامس الممكنة لتلبيس السطوح التجريدية. وفي الوقت ذاته لتخليص سطح الشيء من شيئيته الوظيفية المحدودة. لتضيف للمعطى الحسي الذي يقدمه الفن الخليجي للحياة كثافات من تراكم الأثر الضوئي على سطح الأشياء المنتمي إلى هذه البيئة. وفقاً لتجريد تنقية دقيقة لهذه التأثيرات في أشكال متعددة تتعاقد فيما بينها لتشكل ما يمكن تسميته بملمس البيئة.
يؤسس هذا التأسيس التجريدي لملمس السطح في أعمالها المرفقة مع هذه المادة، خروجاً وظيفياً للعناصر التي تسّخِرها لهذه التكوينات. فالمخطط الليفي لمقطع الشجرة، والتموجات المشابهة لهذه الخطوط المطبوعة على شكل قطعة الشماغ في الزي العربي، يحولهما إلى أشياء ممكنة في الحيز الترابي وعلى مستوى العناصر معاً. إذ لا يبقى الخط المتموج لألياف الشجرة مجرد إيحاء نباتي، بل تعبيراً منفتحاً على الجسد في المدى الصحراوي.وفي الطيف مائلاً في القيظ، ههنا لا يبقى الخط المائل ترميزاً جسمانياً، بل ينفتح أو يستدمج البيئة في
الجسد لإنتاج الخط.
فنجد الخطوط الصريحة التي ترسم حدوداً لوجوه مرسومة بشحة وكثافة، كأنها استطالات مضخمة عن الخط المتموج للشماغ أو ألياف الشجرة. وربما هي انعكاسات مندمجة في الرؤية، قادمة من مشهد التحرك المستمر للمستويات الرملية المائلة في البيئة الصحراوية. وهذا الحضور البيئوي صريح بدقة، ليس فقط في بنية الخط، بل أيضاً في درجة الضوء الذي تستخدمه لتكثيف اللون الأبيض.
تقدم الفنانة مياسة في هذه الأعمال كتلاً تعبيرية من خلال الاحتواء الذي يؤسسه التعارض بين الكتل اللونية البيضاء والسوداء، إلى جانب التنوع التقني في منتجة الكولاج بالمربعات (كيبورد) السوداء المطبوعة بلا أحرف.
فالتعارض اللوني ومعالجة السطوح بالمؤثرات البصرية المتراكبة؛ تجعل الكتل اللونية تتحرك في تنويعات تعبيرية متباينة، أرقام وأحرف وسطور أو صفحات معلَّمة بالخطوط. كلها تتوزع وتتراص معمارياً لتؤسس عناصر شكلية وترميزاً أو تشفيراً لهذه الأشكال.
لوحات الكتاب الفني
في جزء من عملها Artbook Page 18 End E، يعمل اللون الأبيض بشفافية عالية لتراكم الطبقات اللونية الشفافة للون الأبيض. حيث يظهر عمق اللوحة في سطح اللوحة بمؤثراته اللمسية المتعددة. ولا توجد مساحة يكون فيها الأبيض فراغاً عادياً لترتيب تدرج الثقل اللوني للضوء. لذلك ينفتح العمل على داخله بجعل الطبقات المتراكمة متفاعلة. والتقطيعات الخفيفة التي تظهرها في تباين المعالجة اللمسية للسطوح؛ تحدث تأثيرات طفيفة كإشراقات صغيرة للممكن الذي يمكن أن يكونه هذا العمل. فلا تختفي مربعات الكيبورد الممسوح تحت السطح الأبيض أو خارج العمل، بل يستمر متحولاً من هيئة خطية في الأسطر الباهتة التي تظهر في الزاوية العليا على يسار اللوحة، وتتعمق في المنتصف، ثم تظهر المربعات السوداء التي تخرج من اللوحة. وتتجسد بالتفصيل هذا التجريد الدقيق للأثر فوق الأثر. لذلك تجعل شفافية اللون الرؤية متدرجة من طبقة إلى أخرى، ومتحسسة ملمساً إثر آخر نحو عمق لامتناهي.
مع هذه الأعمال تضع الفنانة البحرينية مياسة السويدي لنفسها تحدياً مضاعفاً: أن تؤسس من خلال هذه التجربة ما هو أبعد منها، لا أقصد هنا من عبارة الأبعد ما كان يقصده (فان كوخ) بها، فهذا القصد بات من المسلمات المتعلقة بماهية الفن، أي تمكين الرؤية من التعمق في نسيج المشهد وعناصره. بل أعني بالتحديد أنها بهذه التجربة تدخل مجال الفن خارج الحدود المحلية للعروض الفنية. ويوفر لها انتقالها الأكاديمي بين الرياضيات ونظرية الفن؛ القدرة على تحمل مسؤولية الوقوف أمام اشتراطات الفن التاريخية والمتحولة باستمرار. حيث يواجه تاريخ الفن كل منجز جديد بنسخة عنه، وبالتالي يقلل من خياراته المتاحة. لكن في الوقت ذاته يجعل من شح الخيارات أساساً لابتكارات فنية وجمالية لا تنتهي.
تعريف الكاتب
* ناقد وكاتب سوري مقيم في فرنسا