معمار الشكل في أعمال التشكيلية البحرينية مياسة السويدي
التَبسّ الموقفُ أكثر مع إعلان ادوشامبب سخطه الجمالي، الذي يُفسَّر إلى الآن على نحو خاطئ كمفهوم جمالي. وبدأت الباوهاوس بمساعٍ ملموسة لترجمة الحياة إلى نتاج جمالي، فبدأت التقنيات والاستجابات الفنية لها بطرح نفسها عبر أعمال جاهزة وأعمال مباشرة وأعمال مفهومية، وغيرها من الأسلبات التي يمكن حشرها على نحوٍ لا معياري تحت قوس ما بعد الحداثة.
هكذا أتاحت التقنيات الحديثة السبيل أيضاً لظهور فنون بصرية كانت غائبة عن مواهب لا تجيد الرسم أو النحت، كالعلاقة بين آلة الكاميرا السينمائية ولويس بونويل الذي كان يقول: الولا الكاميرا لما كنت موجوداً كمبدعب، كونه لم يكن يجيد أي شيء آخر غير الإخراج السينمائي. وكذلك دفعت بكل من النحت والرسم إلى إعادة التفكير في منطقهما الداخلي وتقنيات بنائهما. ففتح اروشنبيرجب إطار اللوحة على كل شيء. وكذلك الأمر مع النحت الحركي (كادلر وبويز) والنحت الفراغي (هنري مور).
وبرغم ما تقدم تبقى اللوحة هي المنصة البصرية الأصعب فنياً، لأن اللوحة ليست رد فعل سيكولوجياً على الحياة الداخلية، وليست إعادة تقديم الواقع في هيئات فنتازية. إنها بناء انفعال يتوسط مجالاً لمفاهيم تتعين عبر الجسد، جسد الأشياء وجسد الأشخاص. لذلك يكون العمل فيها بمنزلة مغامرة تتأرجح بين الحنكة البصرية والغفلة.
هذه هي عادتي في التمهيد لتقديم تجربة فنية ما. وهي هذه المرة تجربة الفنانة البحرينية مياسة السويدي، التي أنهت دراستها للرياضيات وتخصصت فيها، لكنها تقدم معادلاً بصرياً أبعد ما يكون عن الحساب.
تحييد الفراغ
جهد تقني كبير وتنويع في ملامس السطح اللوني تضعهما الفنانة مياسة على كتلة الشكل بالتعارض مع حيادية كاملة في فراغ اللوحة. العمل كله موضوع في الشكل، أما الفراغ فمعالجته شحيحة ولا يمكن تتبع مسار الضوء في الدرجة اللونية الموضوعة بتجانس ضمن أحادية لون الفراغ. يمكننا القول إننا أمام عمق بالمعنى الذي نستخدمه في الأشكال الخطية التي تكتفي بالوجود معلقة في مجال غير مبأر أو مستقر على ثقل أرضي، كون الأشكال الخطية لا تمتلك سطحاً، العمق سطحها. بينما تحييد الفراغ في هذه الأعمال يترجم إلى تكثيف في معمار الشكل وفي تلوينه.
ثمة إزاحة أخرى في أعمال السويدي المخصصة بهذه الدراسة، متمثــلة في ثراء السطوح اللونية وتعارض توجهاتها الأفقية والشاقولية والتباين غير الانعكاسي للألوان معتم ومشرق، وتجاور الثقل اللوني المشرق والجلي في الألوان الداكنة يجعل الطاقة داخل كتلة الشكل متحركة كأنها تباعد بين كتلة لونية وأخرى.
هذا التنافر الطافي على مستوى أسطح كتلة الشكل يمنح حركية لمعمارية الكتلة بين الأمام والخلف وإزاحة جانبية ضمن إطار الشكل. لكنه في الوقت ذاته يضفي جمالية تزيينية للشكل على حساب جعل الرؤية جسدا.
يتضح ما تقدم في اللوحة رقم (1)، حيث تتراصف ثلاثة وجوه في كتلة متحللة إلى هيئة غير مستقرة. شكل منزوع بالكشط عن الألوان شاقوليا.
لذلك تطيرت الملامح وتحولت إلى أثر لعملية الكشط. ومع طباعة الأحرف الإنجليزية بنقشها الصناعي على الشكلين الجانبيين، يغدو الوجه ممسوحاً، مجرداً من القسمات التي تمنحه عمقاً وتاريخا لهذا العمق. بينما يبقى الوجه في الشكل الموجود وسط العمل مستقلاً برغم تنسيقه مع انسيابية الخطوط التي تسحب الشكلين الجانبيين إلى الداخل. تصبح العلاقات البصرية بين عناصر هذه الأشكال معقدة، كأنما كل شخصية/شكل من هذه الأشكال الثلاثة مسحوبة من خارج اللوحة إلى منصة المشهد، لتتراصف على مستوى الرأس وتختلط دون ذلك.
اللوحة متعددة الأسطح
ضمن تجاربها الأحدث تقدم مياســة السويدي لوحات مكعبية مشـــغولة في جــزء منها بكيفـــية حســية مغايرة/الشـكل رقــم (2)، مع اهتمام مضاعف بالاشـــتغال على الملــمس النافر للسطح وتنسيقه مع هيئة الكــتلة اللونية.
لكن لماذا تقدم الفنانة أعمالاً مرسومة على مكعبات متعددة الأسطح، بدلاً من سطح اللوحة العادي؟ هل هي ضرورة تقتضيها بنية الشكل في العمل المرسوم على مكعب؟ أم للأمر علاقة بتكثيف منظور الشيء عبر تنويع مستويات رؤيته؟ الملاحظ في بعض المكعبات أن الأسطح/الأشكال تتوقف حدودها عند زاوية المكعب، وما من امتداد للشكل أو حتى للفراغ. كل سطح مستقل بوضعية الشكل وبهيئته, وتتشارك مع بقية الأسطح طريقة المعالجة الإجرائية للتكوين ككل. وعلى الرغم من الطريقة اللافتة لعرض هذه المكعبات التي تجعلها قادرة على تقديم ثلاثة أسطح من زاوية واحدة، فإنّ تلقيها لا يتفاعل مع حركة جسد المتلقي. فالمكعب وطريقة عرضه اللافتة هنا يمنحان المتلقي فرصة الرؤية المحورية لأشكال متعددة الآفاق، أي يكون كل شكل أفقاً مفتوحاً على شكل آخر مرئي من خلال قدرة المكعب على جذب أسطح عدة إلى مجال رؤية العمل ككل.
المكعب نظام حركي منفتح للشكل على تنوعه وتعدد طرق رؤيته، لأن اللوحة المكعبية متعددة الأسطح تستأثر باشتراطات مختلفة. فرؤيتها تفرض على المتلقي الالتفاف لأجل لحم مشهد بآخر، وكذلك تأسيس علاقة مع الزمن الضمني للأشكال وتحولاتها وارتباطاتها في مجال المكعب. غير أن ذلك لا يتحقق في تجربة الفنانة مياسة السويدي التي وفقت في معالجة كل سطح على حدة وفي طريقة العرض، لكنها عزلت الأسطح المتعددة للوحات المكعب.
إن كان الأمر يتعلق بتقديم خمس لوحات، فلماذا لا تفرد كل واحدة على سطحها الخاص؟! أما جلبها إلى المكعب وتحويلها إلى لوحة متعددة الأسطح، فذلك يعني إعادة التفكير في التكوين وفي إجرائيات بنائه. فاللوحة متعددة الأسطح, وهي التسمية الأدق من وجهة نظري، تقدم الشكل وارتباطاته وحتى ممكناته المتنافرة معه، لكنه يبقى شكلاً مرتبطاً في الأفق الشامل للرؤية ككل. وهذه القضية تترجم في طريقة رؤية هكذا أعمال، وكذلك في كيفية عرضها وتقديمها للمتلقي وإرشاده إلى المسافة التشكيلية المناسبة.
الأمر الآخر اللافت فيما يكتب عن تجربة الفنانة مياسة السويدي أو غيرها من الفنانات، هو الإشارة الساذجة التي تجر الموقف النسوي إلى الأعمال الفنية. هذا السلب الفني لا يجرد الفن من فنيته فحسب، بل وأيضاً يقحم ما لا معنى له في سياق لا يخدمه. هل تؤسس لوحات مياسة لرؤية نسوية إلى الأشياء مثلاً؟ مجرد رصف هذه الكلمات يظهر حجم الاستهانة بالمعرفة النقدية الخاصة بنظرية الفن في مجال الكتابة الصحفية.
فمجرد وجود نساء في ألوان زاهية لا يؤسس لموقف نسوي. هذا إن افترضنا أن ثمة تصوراً خاصاً بالموقف النسوي لتجسيد الأشياء في العالم.
معظم الأشكال النسائية في لوحات مياسة السويدي تؤسس لتضمين الآخر في الذات، وهو تضمين مؤسس على وضعية الشكل فحسب. فالأشكال صريحة الإطار، وهو ما يجب تجاوزه ليكون الشكل قادراً على تثوير علاقات ارتباطاته بالأشكال الأخرى المحتملة له والكامنة فيه، ما يجعل الخط في الجسم مجرد زاوية رؤية متحركة باستمرار. بينما تثبت السويدي مشهد لوحاتها في لحظة صريحة لونياً وشكلياً.
النشاط الكبير الذي تقدمه السويدي بمعارضها ومشاركاتها الفنية، يجعل تجربتها مفتوحة على تحولات كبيرة على مستوى التقنيات. ما يمكنه أن يؤسس بالتدريج لنمو خفي لأسلوب آخر في بناء اللوحة قد يترجم مستقبلاً في معرض شخصي قادم .