حياة أخرى

نضطر أحيانا أن نهدر ساعات من عمرنا في نشاط غير مثمر كما حدث لي ذات يوم، فقد حضرت اجتماعا تدريبيا امتد لساعات طويلة، استمر فيها المحاضر بتكرار معلومات قديمة ليست ذات قيمة، ولأني مجبرة على إكمال ساعات التدريب لم أتمكن من المغادرة، فكان الحل الوحيد أن أهرب بعقلي وروحي من هذا المكان، وكم تمنيت حينها لو تمكنت من اصطحاب كتاب يهون علي هذا الضيق والضجر اللذين أعانيهما، فالقراءة هي الملاذ والسلوى في مثل هذه المواقف، وهي الوحيدة التي تبعث السكون الداخلي في محيطٍ يسبب الانزعاج، فرحت أبحث في أحد الملفات في جهازي مدعية التركيز والتطبيق لما يقول المحاضر، هناك أحتفظ بعدد من الكتب الإلكترونية التي أنقذتني ذاك اليوم، وجدت كتاباً أخترته من دون تردد بعنوان «حياة أخرى» فأنا في تلك اللحظة تحديداً كنت أبحث عن «حياة أخرى» خارج هذا الاجتماع.

مذكرات أديب مهاجر
كتاب «حياة أخرى» بقلم الكاتب السويدي من أصل يوناني، وهي مذكرات أديب مهاجر عن الشيخوخة والكتابة والذاكرة والهجرة واللغة والحب، إضافة إلى اشياء أخرى، غرقت بأكملي بين تلك الصفحات التي منحتني السكينة والراحة أثناء الاجتماع الذي امتد إلى ساعات تزيد على الأربع، دون إحساس بأي ذنب لتجاهلي المحاضر الذي لم يرتق بعد بأسلوبه ولا معلوماته، وكان هدفي استثمار ساعات عمري الأربع في قراءة سطور مفيدة، فأنا من أصناف البشر الذين يعانون من ضياع أوقاتهم هباء منثوراً في اجتماعات دون جدوى أو أحاديث عابرة لا تغني ولا تسمن من جوع، فالوقت أثمن من أن نهدره دون مقابل، ورحت أبحث عن الكاتب الذي ولد في اليونان عام ١٩٣٨ وعاش فيها حتى تخرَّج في المدرسة ثم هاجر إلى السويد في عام ١٩٦٤، وتعلم اللغة السويدية وأصبح روائياً مشهوراً وكاتباً مسرحياً، حاز جوائز مرموقة وتكريمات رفيعة من أعلى مستويات الدولة في كل من السويد واليونان، كما حصل على الجائزة الاسبانية للآداب لعام ٢٠١٩ عن الطبعة الاسبانية من كتاب «حياة أخرى».

وقتنا الثمين

عنوان الكتاب بحد ذاته يثير الكثير من التساؤلات، كم منا يحلم بحياة أخرى؟ وكم منا تحققت له تلك الحياة؟ وهل تلك أمنية قابلة للتحقق أصلاً أن تكون لنا حياة أخرى، وبعد صفحات قليلة توقفت فيها عن القراءة لأوهم المحاضر أني ما زلت أستمع له وتذكرت أحد الأفلام القديمة التي مثلها نيكولاس كيج بعنوان رجل العائلة، ويحكي قصة رجل أعمال ناجح وموهوب يعيش حياته وحيداً في سعادة معتقداً بأنه حصل على كل شيء، يستيقظ في أحد الأيام ليجد نفسه يعيش حياة مختلفة تماماً مع زوجة وأطفال وحياة عائلية سعيدة، ومع أحداث الفيلم يستمر البطل في محاولات يائسة لاستعادة حياته السابقة الأصلية وعمله الناجح، ويستعرض لنا الفرق بين كلتا الحياتين والحالة النفسية التي يمر بها البطل في البحث عن حياته الأخرى وهل كانت تستحق كل هذه التضحيات.

وأعود لصفحات الكتاب المنقذ، فنجد الكاتب يشارك تجاربه وانطباعاته وأفكاره إضافة إلى مشاعره الخاصة جداً، ويستعرضها في صورة مشاهد متقاطعة بين الحاضر والماضي، يتحدث في البداية عن أسباب توقفه عن الكتابة وعن حبسة الكاتب بشكل عام، وتلك المعضلة تحديداً التي كانت السبب في كتابة هذا الكتاب، فقد استعرض بإسهاب الفرق بين حالتين مختلفتين، الأولى عدم القدرة على الكتابة والأخرى قرار التوقف الاختياري عن محاولة الكتابة وهو شأن مختلف تماماً.

الكتابة في السبعين

الجدير بالذكر أن الكاتب بعد أن انتهى من روايته الأخيرة التي أنهكت قواه، فكر أن يتخلى تماماً عن الكتابة قبل أن تتخلى الكتابة عنه، لخوفه ربما غير العقلاني، فتصور أنه كلما كتب أكثر ازداد خطراً أن ينفد كل شيء بداخله،، فبعد أن غدا وعمره ٧٧ عاما غدت الكتابة له كمن يعمل عملا اضافيا، وذكر أن بيرون طرح الرأي القائل بأنه يجب التوقف عن الكتابة بعد سن الخامسة والسبعين؛ لأنه لا شيء مهماً يحدث بعد هذا العمر، فالكاتب في هذا العمر غير متناغم مع المجتمع من حوله، فهو ما أن يتقدم في السن في عالم يزداد غرابة وغربة بالنسبة له ويصفونه بأنه كبر وصار نكداً، لكن كاتبنا متردد في اعتماده على النقاد؛ لأن قرار التوقف عن الكتابة قرار شخصي وخاص، كيف يسمح لآخر باتخاذه بدلاً منه وهذا الأمر يتعلق بحياته، فهو يشعر بالرعب من الفراغ الذي سيحتل حياته لو توقف عن الكتابة ويصف حال الكاتب خارج كلماته بأنه ميت، يعيد التساؤل مرة تلو المرة، لماذا تحظى الكتابة بكل هذا الوزن في حياتي؟ ماذا أعطتني؟ وما الذي استبدلته؟ وكان يقنع نفسه أنها كانت بمنزلة حارس يؤدي واجبه في الجيش فهو لم يملك خياراً إلا تلبية نداء الكتابة.

الكتابة كحياة

ومع استمرار الكاتب وتقليبي لتلك الصفحات الإلكترونية في حاسوبي يجد الكاتب الجواب بسيطاً كما كتب «الكتابة تساوي حياتي والتوقف عنها يساوي التوقف عن الحياة، وإذا كان لا بد من الموت فلتستمر حياتنا في أعمالنا وفي ما نكتب» ويقول: «لقد كتبت من دون أن أطلب إذناً ومن دون أن يتمكن أن يمنعني أحد من ذلك، وربما كنت أتولى مسؤولية عالمي، وقد كان مكتوباً أن أهاجر من نفسي كما هاجرت من بلدي، فالهجرة نوع من الانتحار الجزئي، فأنت لا تموت لكن الكثير بداخلك يموت، ولا سيما اللغة»، وهذا يأخذنا لموضوع الكتابة بلغة أخرى غير اللغة الأم التي فيها الكثير من التحديات، فعالم كل لغة مختلف في ايقاعه وصيغة الوقت والتوقيت، وإضافة إلى قواعد التصريف والنحو والسرد وغيرها، فكل لغة فريدة ويصرح أنه لا يمكن كتابة الكتاب نفسه بلغتين مختلفتين؛ لأنك حين تكتب فأنت تكتب كتاباً يشبه الكتاب الذي كتبته بلغة أخرى.

الغربة في الوطن

وصف الكاتب عودته لوطنه الأول اليونان بأنها هجرة من نفسه لأنه أصبح شخصا آخر في السويد، وظل يتساءل ما الذي سيعيده إلى نفسه؟ وبقي متأملا أن يستفيق شيء ما بداخله كما لو أنه يشاهد فيلما قديما مشوشا، وبقي في حالة معاناة مع حالته النفسية تلك التي قد تمر على الكثيرين في فترة ما من حياتهم في لحظات يتوقف فيها الزمن أو يضغط ليختزل في اللحظة الحاضرة، شعورا بالتزامن مع أحداث الحياة وشعورا بالانفصال عنها والرغبة في شيء مختلف تماما، وقد قال فيليب روث الروائي الأميركي: «لا يمكنك الكتابة عندما تختفي الذكريات»، وتلك كانت مشكلته، انه تذكر لكن تلك الذكريات لم تعد مهمة ولم تكن تنبض بالحياة، بل تحولت إلى مجرد صور وهو تحول أيضا إلى صورة لذاته، ما يأخذنا إلى تساؤل آخر، كيف ننظر إلى حياتنا السابقة من خلال عين الحنين أو عين المتفكر الناقد؟ لأننا قد نتطلع إلى المستقبل لكننا بقصد ودون قصد نسعى دوما إلى معنى جديد وفهم جديد ورؤية جديدة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ومهما بلغنا من العمر عتيا، وهل للحياة أي نكهة إن لم تقدم لنا الجديد على الدوام؟

حياة لا تُنسى

يقول الشاعر محمود درويش: «وأنت في طريقك للبحث عن حياة، لا تنس أن تعيش» تلك الوصية الخالدة التي تحتاج إلى وعي وإدراك وتطبيق مستمر، فالكثير أهمل نفسه وانشغل بصور الحياة عن الحياة الحقيقية دون تحقيق ذواتهم في حياة واحدة لا نملك سواها، وقال كارل يونغ: الشخص الذي ينظر إلى الخارج يحلم والشخص الذي ينظر إلى الداخل يصحو، فللنظر جميعا إلى أعماقنا لنصحو قبل أن تمضي الحياة، وفي ذات السياق قصيدة الشاعرة التايوانيّة سان ماو والمنشورة في مجلة الآداب اللبنانية ترجمة مي عاشور حيث تقول فيها:

لو كانت هناك حياةٌ أخرى، لوددتُ أن أكون شجرة

أقف إلى الأبد، بهيئةٍ غيرِ حزينةٍ ولا مبتهجة

نصفي ساكنٌ في التربة،

والآخرُ يتطايرُ في الرياح.

نصفي ينثر ظلًّا رطبًا،

والآخر يستحمُّ في ضوءِ شمس.

غايةٌ في السكون، غايةٌ في الفخر.

لا أتّكئ على أحدٍ أبدًا،

ولا أسعى وراء شيءٍ قَط.

لو كانت هناك حياةٌ أخرى، لوددتُ أن أتحوّلَ إلى رياح

أستطيع في لحظةٍ أيضًا أن أصير سرمديّة.

لا أملك أحاسيسَ مرهفةً، ولا عينين ممتلئتين بالمشاعر

نصفي ينسابُ في المطر،

والآخرُ يرتحل في رونق الربيع.

وحيدةً، أسافرُ إلى بعيد

حاملةً كلَّ الأشواق الباهتة.

لا أشتاق أبدًا،

لا أعشق مُطلقًا.

لو كانت هناك حياةٌ أخرى، لوددتُ أن أكون طيرًا

أجتاز الخلودَ محلِّقًا، غيرَ قلقٍ من أن أضلّ الطريق.

أملك آمالًا متوهّجةً في الشرق،

وعشًّا دافئًا في الجنوب،

أُلاحقُ مغيبَ الشمس غربًا،

وأُثيرُ أريجًا صوبَ الشمال.

لو كانت هناك حياةٌ أخرى

لتمنّيتُ أنْ تصير كلُّ مرّةٍ نلتقي فيها أبديّةً.

ويبقى السؤال عزيزي القارئ، لو كانت لك حياة أخرى فكيف ستختارها أن تكون؟

 

https://www.alqabas.com/article/5880588

 

تقديم تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *