القدرة على البقاء.. بالبحث عن المعنى
سؤال يتبادر إلى ذهني كلما هممت بقراءة كتاب ما، كيف نختار كتبنا؟ هل حقاً نحن من نختارها أم هي التي تختارنا، هل تبحث بنفسك في معارض الكتب والمكتبات عن كتب تشبهك وترضي ذائقتك أم تسأل من حولك من محبي القراءة عن كتبهم المفضلة، أو ربما تكون المصادفة حاضرة فتجد بين يديك كتاباً يأخذك لعالم آخر فيغير من مفاهيمك ويبعث بداخلك الدهشة؟
كل كتاب له خصوصيته، إذ إنه فكرة أو مجموعة أفكار يطرحها الكاتب ويستمر في شرحها ليعلمها للآخرين، والكتابة الجيدة مبنية على فرضية بسيطة، وهي أن تجربتك ليست لك وحدك، إنما هي استعارة لتجارب الجميع كما تصفها الشاعرة الأميركية دوريان لوكس. وكثيرة هي كتب تطوير الذات التي تتحدث عن معاناة ما وكيفية النجاة منها، بل وكيفية جعل تلك المعاناة سبباً أو دافعاً لنجاح مميز، ولكنّ هناك نوعاً من المعاناة التي لا تكون لك القدرة على دفعها عن نفسك بأي طريقة كانت، فهناك ظروف قد تبعد الإنسان عن إنسانيته، وتعرّض حياته للموت في أي لحظة، وهنا لا يمكن لأي شعارات كانت أن توفر لك حلاً سحرياً لتجاوزها.
من هنا كانت فكرة كتاب «الإنسان يبحث عن معنى»، لعالم النفس فيكتور فرانكل (1905 – 1997)، وهو طبيب نمساوي يهودي تعرض للاعتقال في الحرب العالمية الثانية، وتلك المعاناة في المعتقل كانت سبباً لتأسيس مدرسة العلاج بالمعنى (Logotherapy)، وهي كلمة يونانية من لفظة (logo) يقصد بها المعنى، وتركز على الوجود الإنساني، وتهدف لتشجيع التفكير المنطقي، وإيجاد معانٍ خاصة وفردية لحياة كل منّا، كما أن من أساسها الاعتقاد بأن المعاناة هي جزء لا يتجزأ من أي حياة طبيعية في جميع الظروف، بل حتى في أسوئها، حيث لابد من وجود معنى لتلك المعاناة ليستطيع الاحتفاظ بإنسانيته، فنحن دائماً نملك الحرية في إيجاد المعنى الخاص بنا.
في كتابه، ناقش التجربة الوجودية في المعتقل، وتأمل مراحل المعاناة المختلفة التي تعرض لها، وتحوله من إنسان طبيعي إلى مخلوق متجرد حتى من اسم فهو ليس أكثر من رقم في سجلات المعتقلين، يصبح الإنسان هناك عبارة عن جرح عميق واحد يمتد من قدميه حتى قمة رأسه، حالة من انعدام الذات وفقد الإحساس بالألم، مما ذكرني برواية «الساعة الخامسة والعشرون» للكاتب الروماني قسطنطين جورجيو التي تصف انهيار قيمة الإنسان وعدم جدوى إنقاذه بعد فوات الأوان.
القدرة على الانفصال
كتب نيتشه: «إن من يجد سبباً يحيا به، فإن في مقدوره غالباً أن يتحمل في سبيله كل الصعاب وبأي وسيلة من الوسائل»، فكيف يا ترى يكون لحياة السجين أي معنى وهو معرض للموت في أي لحظة، كيف يستطيع أي إنسان المحافظة على إنسانيته ويكون لحياته معنى في ظروف قاسية للغاية؟ وهذا ما يناقشه الكتاب بتفاصيل التجربة الشخصية التي عاصرها الكاتب بنفسه من داخل المعتقلات النازية، فهذا الكتاب ليس من كتب التنمية الذاتية أو كتب تطوير الذات التي تملأ المكتبات، بل تجربة شخصية ومثال حي وواقعي لإنسان فقد كل شيء، لكنه امتلك القدرة على البقاء والمقاومة، وقرر ألا يستسلم للموت، وآمن بتأثير القيم الفردية الذاتية والقدرة على الانفصال عن المواقف والأحداث الخارجية، واختيار القيم الروحية الخاصة التي يكون مسؤولاً عنها رغماً عن الآخرين والظروف، بينما عجز البعض الآخر عن ذلك، واستسلموا لليأس وحتى الانتحار.
استعرض الكاتب أطوار ونفسيات الناس المختلفة وردة فعلهم تجاه ما يحدث، فحين يدخل السجين المعتقل في أيامه الأولى يمر بمرحلة الصدمة ولها درجات كثيرة، كما تم وصفها بتفاصيلها، وبعدها يدخل في مرحلة الوهم، وهو شعور غامض لا تفسير له يحمل أملاً كاذباً بأنه سيتم الإفراج عنه في اللحظة الأخيرة تماماً قبل الإعدام، ويستمر «فرانكل» في شرح تلك المراحل ليصل السجين فيها إلى حالة من البلادة والموت الانفعالي، حين يعتاد الجوع والألم والإهانة مع رؤية الموت والمعاناة، وذلك بسبب وجود آلية إنسانية غريزية تكفل الدفاع عن الذات، فيكون همّ الإنسان في تلك اللحظة النجاة بنفسه، فلم يعد هناك ما يعبأ لأجله.
حلول واستراتيجيات
كما تعرض الكاتب إلى نفسية السجين بعد التحرير والإفراج من السجن، وفقد قدرته على الإحساس بالحياة والحاجة إلى إعادة تأهيل نفسي بسبب اختلال في الشخصية، وابتكار العقل لطرق الخداع والتحايل التي علقت به أثناء الاعتقال، فلم يعد يصدق أو يستوعب أنه حر تماماً، كما وصف صعوبة العودة إلى الأمر الذي وضع جل آماله عليه في الأسر، فقد كان يحلم برؤية أسرته أو منزله القديم الذي طالما حلم بالعودة إليه ثم لا يجد أي من ذلك، فلا عزاء له ولا سعادة على هذه الأرض تعيد له ما مضى.
وما قد يهمنا في هذا الكتاب ليس استعراض حجم الألم الحاصل، وإنما الحلول والاستراتيجيات التي تعيننا على الحياة وتحمل قدر من المعاناة شئنا أم أبينا، وأول تلك الحلول هو الحب، نعم دائماً يكون خلاص الإنسان في الحب وبالحب، فكما يذكر «فرانكل» وبالدليل أن جميع من بقي على قيد الحياة من أولئك المساجين قد وضع نصب عينيه شخصاً يحبه ويحلم برؤيته، هذا الأمل الذي أبقاه في حالة من المقاومة والتصبر، كما تحدث عن أساليب تقوية الروح الداخلية من خلال الاستغراق في الماضي الجميل، ليضخم العقل تلك التفاصيل والذكريات القديمة ويذكره أن في الحياة ما يبهج، فكما هو في عمق المعاناة الآن، إلا أن الأمل الذي يستحثه على الحياة موجود في داخل كل منا.
العلاج بالفن
ما أثار استغرابي تحدثه عن الفن، فآخر ما كنت أتوقعه أن أقرأ عن الفن في مثل تلك الكتب التي تتناول المعتقلات والسجون، فهل في المعتقل أي نوع من الفنون؟ فقد ذكر أن الناس هناك يصلون إلى حالة مفرطة من الإحساس بالجمال في أبسط صورة، والشعور به حتى في مشهد غروب عابر قد لا تعيره اهتماماً في حياتك العادية، واستعرض «فرانكل» فنوناً أخرى فذكر أن المساجين يجتمعون لأداء أنشطة بسيطة من غناء وتمثيل لمساعدتهم على النسيان وتكون سبباً للضحك، فتنمية روح المرح لها أثر كبير في المحافظة على الذات ونضالها من أجل البقاء.
الحرص وإبقاء الشعور بالفردانية الذاتية والقدرة على امتلاك حياة روحية خاصة لا يمكن سلبها من الإنسان إلا بإرادته، فمن المهم المحافظة على احترام الإنسان لذاته، لأن فقد ذلك قد يفقده نفسه، وما نستخلصه من كل ما سبق أن المعاناة حالة نسبية تماماً، في الكتاب يضرب مثلاً أن السجين قد يسعد إذا نقل إلى معتقل آخر أو إذا تم استبدال مناوبة حارس بآخر، وتلك الأمور قد لا يكون لها أي معنى نسبياً لكنها قد تجعلك في يقين أنه مهما بلغ بك الحزن والمعاناة، أن هناك من هو أكثر معاناة وحزناً منك.
استقرار نفسي
من أسلحة الروح المهمة هي تقبل الإنسان قدره بنفس راضية واعية، وخصوصاً في حال عجزه عن تغيير وضعه، حينها يكون من المهم إضافة معنى لتلك المعاناة وتغيير نظرتنا للحياة، ومن ثم فإن هذا الكتاب يصنع سلوكيات، ويساعد على رؤية وخلق أسلوب حياة في اتجاهنا نحو الحياة، إذ علينا أن نعلم أنفسنا ونعلم كل من استبد به اليأس أن ما هو متوقع من الحياة ليس في واقع الأمر موضع أهمية، بل إن ما يعنينا هو ما تتوقعه الحياة منّا، فالحياة عامرة بالفرص التي تُمكن الإنسان من استخدام قدراته في عيش حياة رائعة حتى لو كانت من محن وآلام ومعاناة.