مياسة.. أساطير الشاي
عبدالوهاب العريض
في يناير عام 2016 قدمت هيئة البحرين للثقافة والآثار مهرجان (الطعام ثقافة) الأول شارك فيه نخبة من الفنانين البحرينيين مع أمهر الطهاة المتواجدين في البحرين، ليقدموا تجربة هي الأولى من نوعها على مستوى الوطن العربي، في مهرجان يتم من خلاله الدمج ما بين ثقافة اللوحة وثقافة الطعام.
ومن خلال متابعتي للوضع الفني في مملكة البحرين والخليج وجدت في هذا المهرجان حالة من التميز بين الفنانين ولكنها متفاوتة بين الفنانين المشاركين في المهرجان، وكانت المشاركة الأخيرة في المهرجان من نصيب الدكتورة مياسة السويدي مع الشيف سوزي المصري (إيطالية) التي قدمت شيئا مختلفا جداً، لم يقتصر العرض على لوحة واحدة أو اثنتين كما فعل جميع الفنانين المشاركين، وكانت الدهشة بأن تقوم الدكتورة السويدي باستغلال هذه المناسبة لتقدم معرضاَ شخصياً متكاملا من خلال عرض 28 عملاً فنياً بأحجام مختلفة، ومن خلال محاضرة للناقدة والتشكيلية بلقيس فخرو التي قالت فيها بأن “السويدي استوحت جميع أعمالها من الشاي عبر العصور، وقدمت عديداً من الأعمال الفنية التي كانت تستخرج اللون من أكياس الشاي، مما جعلها تقدم البعد الفني في تلك الأعمال التي مزجت في بعضها بين الحرف واللون”، وقالت كذلك ” إن هذه الأعمال تعيد إلى ذاكرتنا ورق البردى الفرعوني، وفي ذات الوقت تعيدنا إلى رسومات العصر الحجري”، وهذا ما دفعني للحوار في البداية مع الناقدة فخرو حول هذه الأعمال التي اعتبرناها بعد البحث تقدم لأول مرة في العالم العربي بهذه الطريقة.
توثيق التجربة
فكرة إعداد كتاب عن هذه التجربة سوف يكون له أثراً بليغاً على مستوى العالم العربي وكذلك دول العالم كافة، وكتبت قائلاً (التوثيق لهذه التجربة من خلال صور اللوحات وما كتبته الصحافة – العربية والأجنبية – عن المعرض كان اللبنة الأولى لصناعة كتاب معرفي مميز، وهذا ما جعلني أقترحه على التشكيلية مياسة السويدي كي نستطيع تقديم التجربة الفنية مصحوبة برؤية ثقافية، ليكون مرجعاً لكل قارئ ومتابع لحركة الفن التشكيلي في الخليج ومملكة البحرين بالدرجة الأولى، فيما يخص تقديم لوحة تشكيلية معتمدة على لون وأكياس الشاي، لذا أبحرت في مراحل الإعداد للتجربة، بينما ذهبت السويدي لتطويرها من خلال عمل المزيد من اللوحات بأحجام مختلفة).
جائزة سوفيرين
ومما شجعني أكثر على ذلك كان ترشيح عمل “همس الشاي” (100×150) سم2 من قبل هيئة الثقافة البحرينية للمشاركة في معرض تقدم فيه جائزة سوفرين العالمية، التي تقام على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وسط منافسة (200) فنان تشكيلي من مختلف البلدان. وقد قدمت المسابقة لأول مرة في دبي، وحصلت السويدي على جائزة التصويت التي تقدم للمرة الأولى، لتكون أول فنانة تفوز بتلك الجائزة، وقد بيعت تلك اللوحة في مزاد كريستيز العالمي، الذي أقيم في حفل تسليم الجائزة، وكذلك نشر عدد من الدراسات النقدية التي تناولت التجربة مثل التشكيلية والأكاديمية السورية بسمة شيخو وكذلك الناقدة البحرينية بلقيس فخرو.
هكذا أصبح بين يدينا هيكل واضح لكتاب فني سيحتوي على عدد من الدراسات النقدية، قراءات تاريخية في علاقة العرب مع الشاي حيث كتب الشاعر الراحل حسن السبع على مستوى الخليج، والدكتور عبدالأحد السبتي عن المغرب العربي وهو صاحب كتاب (من الشاي إلى الأتاي).
دهشة مع رشفة شاي
أصبحت لدينا مادة ثقافية متكاملة إضافة إلى صور الأعمال التي بلغ عددها 28 عملاً فنياً، وهذا ما شجع الدكتورة السويدي بأن تكتب أيضا عن تجربتها في إعداد هذه الأعمال في مقالة بعنوان (دهشة مع رشفة شاي) قالت فيها (كانت البداية مع كوب شاي منسي على طاولة أمامي، التقطت الكيس منه، تأملت لونه، فككته بعناية وحرص شديد، أزلت الشاي وبسطت الورقة لأتأملها بهدوء فبدت كلوحة جميلة، لمعت الفكرة في ذهني، وانطلقت لأجمع مزيدا من الأكياس وأعيد التجربة مرات ومرات. المتعة الكبيرة التي صاحبت عملي على تلك اللوحات، كل تلك الساعات التي قضيتها في الاكتشاف، كنت أتعرف على نفسي من جديد مع عبق الشاي الذي انتشر في كل زوايا المرسم ففتح شهيتي نحو إبداع مميز يمتزج بالدهشة.
الإثارة التي رافقت تلك الأعمال والرغبة بالإنجاز ساعدت على تدفق الأفكار الواحدة تلو الأخرى بدون مقدمات، كتبت على بعض الأكياس المفتوحة، وأبقيت بعض الأطراف ممزقة كما هي مع بقايا لون الشاي، ألصقت بعضها على ورق خارجي، وأعدت ترتيبها بطريقة مختلفة، وبعد كل تجربة كانت الفكرة تزداد لمعاناً ووضوحا في ذهني، ذهبت أغمس الأكياس في مشروب الشاي الذي أعده في مرسمي، ليس للشرب هذه المرة بل لتلوينها بلون الشاي من جديد لتكتسب مزيدا من اللون المعتق الجميل). وفي فقرة أخرى قالت (من أجل عمل متكامل كان على أن أعزز كل حاسة متقلبة بين اللون والنسيج والصوت والكلمة وكذلك الإحساس، بل إن الفضول المتوسع بلا نهاية في الإبداع دفعني لأعود وأمارس طفولتي بفن الكولاج، ذلك الفن الذي يحمل بقايا طفولة سكنتني ذات عمر، تحمل في داخلها المزيد من الحنين وعادت مع «أكياس الشاي» حيث اعتمدت في الكولاج على إعادة تدوير مواد سبق استخدامها، فكانت بقايا الشاي هي ألواني البسيطة وخاماتي للتعبير عن الفكرة الأساسية بشكل فني. فرحت أمارس طفولتي من جديد بالقص واللصق وتجميع المتشابه، بفن ذي جمال مختلف أجربه للمرة الأولى على مستوى تجربتي الفنية، لأقدم فصلا استثنائيا من فصول حكايتي مع الفن، لتكون لتلك الأعمال طقوساً احتفالية تشبه طقوس الشاي في استقبال الضيوف).
لا حدود للفن
مقال السويدي كان فاتحة للكتاب الذي جعلنا ننطلق منه أكثر وأطلب شهادات من الشيف سوزي التي شاركت الدكتورة السويدي في المشروع، وكذلك من صاحبة فكرة مهرجان (الطعام ثقافة) وهي الشيخة هلا آل خليفة مدير عام إدارة الثقافة بهيئة البحرين للثقافة والآثار وكتبت ضمن شهادة بعنوان (لا حدود في الفن) قالت من خلالها (كانت ليلة مياسة السويدي والشيف الإيطالية «سوزي» هي ختام فعالية «الطعام ثقافة» حيث حولت مياسة بهو المتحف الوطني إلى معرض مصغر غني باللوحات الفنية، وبأكياس الشاي التي تدلت من أعمال تركيبية رائعة. آلاف من أكياس الشاي استعملت بذكاء وإتقان لتحكي نتاج الحوار الثقافي والفني الذي دار بين مياسة والشيف سوزي، لم أشاهد قط هذه الأعداد الكبيرة من أكياس الشاي تلون لتصبح جزءاً من الأعمال الفنية المتنوعة، بين اللوحات على القماش ومجموعة كبيرة من الأعمال الورقية التي جَمَعت بين الطيور وأكياس الشاي المستعملة؛ لتُأطر وتصبح جزءاً من تشكيل وتجريد ملون بدرجات ألوان الشاي.
أعتقد أن الحوار في هذه التجربة بين الفنانة مياسة السويدي والشيف سوزي، واختيار «الشاي» ليكون بطل هذه الحكاية كان اختياراً مشوقاً، فمذاق الشاي تسلل إلى الأطباق التي ابتكرتها الشيف سوزي ومياسة، استعملت هذه الأكياس الصغيرة في حجمها والقوية في لونها لتكون العنصر الأساسي لمجموعة كبيرة من الأعمال الفنية. ذُهلت من التقنية التي تتطلب صبراً كبيراً وعملاً كثيراً وذلك في استخلاص اللون من كل كيس شاي، وتجفيف الأكياس بشكل محدد قبل أن تدخل في تكوين الأعمال الفنية).
همس الشاي
الأكاديمية والتشكيلية بسمة شيخو كتبت في دراستها لأعمال السويدي “أعمال الشاي تعرّف عن نفسها دون منّة أحد، تفوح منها رائحة الشاي المنعشة فتمنح شعوراً بالاسترخاء دون حاجة إلى التمدد، ودون الحاجة إلى الدخول في جلبة المقاهي، ولا تنسى الفنانة أن تلوّن أعمالها بألوان الشاي المميزة، وكأنها تريد أن تنقل عالم الشاي كلّه في أربع لوحات: شاي أحمر، شاي أسود، شاي أبيض، وشاي أخضر، في كلّ لوحة رمز معيّن بلون واضح يظهر النوع المرغوب التركيز عليه.
وهناك عمل آخر بمقياس كبير مقارنةً بباقي الأعمال (100×150) سم2، بعنوان فن الشاي The Art of Tea والذي نلمح فيه أكياس الشاي مع ماركاتها، تتجمع وتشكل لوحةً تتنوع في خيال كلٍّ منا بطريقة كما تشاء السويدي، التي تترك الحرية للمتلقي ليتفاعل مع اللوحة كيفما يشاء، تدرجات الألوان الترابية في هذا العمل وفق منحنيات رشيقة وتجمّع الألوان (القادمة من ماركات الشاي)، التي تظهر كبقع لونيّة متقاربة في مناطق معينة جعلت انطباع العمل في عينيّ يذكرني بلوحة لكليمت”.
رحلة الأساطير
في عام 2016 شاركت السويدي بتلك الأعمال في معرض أفتتح في متحف فيكتوريا وألبرت في لندن ولاقى إقبالا وإعجابا شديدين لأهمية الشاي في الثقافة الإنجليزية، حيث طقوس الشاي الذي يعتبر مهمّا لدى الشعب البريطاني، كما قدمت في معرض البحرين السنوي الـ 43 لعام 2017 عدداً من أعمال الشاي لقت اعجاباً من المسؤولين والجمهور، متسائلين كيف تحولت أكياس الشاي لتكون لوحات تثير الإعجاب، وعرضت أيضا في أسبوع الفن البحريني الذي أقيم في العاصمة الفرنسية باريس عام 2018، وهذا ما يعني توسع التجربة وتحول عدد اللوحات من 28 إلى ما يزيد عن 40 تم عرضها في الكتاب، ولكن التجربة استمرت في الانتشار إذ تم ترشيح السويدي نهاية عام 2019 من قبل هيئة البحرين للثقافة والآثار ضمن مبادرة (فنان في مدرسة)، لتقديم ورشة فنية لطالبات المدارس واختارت خلالها نشر المعرفة بكيفية التعامل مع أوراق الشاي وتحويل خاماتها إلى أعمال فنية على يد طالبات المدارس.
الطباعة والتصميم
بعد هذه الجهود التي بذلت في إعداد الكتاب كان لا بد من إيجاد مؤسسة محترفة جداً لتقديم تصميم يليق بـ(الأسطورة) وكان مكلفاً جداً من الناحية المالية، ولكنه ذهب في رحلة الأسطورة وتسهلت كثير من الأمور التي جعلته يكون من تصميم أكبر مؤسسة عالمية لتصميم الكتب ويشرف عليها الفنان العالمي اللبناني كميل حوا وهي مؤسسة المحترف، وقدمت المؤسسة تصميماً يليق بالأساطير، وتم تنفيذه في وقت قياسي جداً (ثلاثين يوماً) ليكون تدشينه ضمن معرض فني خاص بتجربة الشاي أقيم في العاصمة الفرنسية باريس حضره عدد كبير من الفنانين الفرنسيين والمقيمين العرب وممثل عن سفارة مملكة البحرين في فرنسا، ليكون أول كتاب يقدم عربياً وعالمياً عن فن الشاي تحت أسم (مياسة.. أساطير الشاي).
[contact-form][contact-field label=”الاسم” type=”name” required=”true” /][contact-field label=”البريد الإلكتروني” type=”email” required=”true” /][contact-field label=”الموقع” type=”url” /][contact-field label=”رسالة” type=”textarea” /][/contact-form]
[contact-form][contact-field label=”الاسم” type=”name” required=”true” /][contact-field label=”البريد الإلكتروني” type=”email” required=”true” /][contact-field label=”الموقع” type=”url” /][contact-field label=”رسالة” type=”textarea” /][/contact-form]
[contact-form][contact-field label=”الاسم” type=”name” required=”true” /][contact-field label=”البريد الإلكتروني” type=”email” required=”true” /][contact-field label=”الموقع” type=”url” /][contact-field label=”رسالة” type=”textarea” /][/contact-form]