ظلال برائحة الشاي.. للفنانة البحرينية ميّاسة السويدي

لوحة همس الفائزة في بجائزة سوفرين العالمية عام 2016
لوحة همس الفائزة في بجائزة سوفرين العالمية عام 2016

بسمة شيخو

ليست ورق بردي! مع أن اللون المصفر الضارب إلى البني الذي يفرض نفسه على خلفية اللوحات ويأخذك الى عالم اللفائف الورقية ونفائس المخطوطات المعدّة يدويا ليقرأها الأنسان المتحضر يوحي بهذا؛ وتآكل حواف اللوحات يشي للحظات بالصبر الطويل الذي أبدته الفنانة لتأخذ لوحاتها مظهراً تراثيا تختلط فيه إيحاءات البردي الثقافية مع قيلولة بعد الظهر التي يكوّن الشاي الساخن عمادها.
الأعمال التي تحتوي على مطبوعات لأشكال نباتية أو طيور ذات خطوط بسيطة تختزل تفاصيل كثيرة تبدو وكأنها نقوشٌ قديمة على أحد الجدران رسمها فنان قديم اختبر نشوة الشاي.

تتزاحم هذه العبارات في بالك أثناء تأمل أعمال “الشاي” للفنانة البحرينية ميّاسة السويدي، سبعة وعشرون عملاً عرضها متحف البحرين في ختام مهرجان” الطعام ثقافة” وشاركها في اختيار موضوع الشاي الشيف الإيطالي “سوزي المصراتي” فالشاي مشترك بين العديد من الحضارات وله طقوسه المميزة وحدها ميّاسة ابتكرت طقساً جديدا يوظّف أكياس الشاي المستعملة لتدخل في كيان لوحة معبرة، لم تكن هذه مهمةً سهلة فقد جمعت الفنانة أكثر من ثلاثة آلاف محفظة شاي صغيرة وتعاملت معهم على مستوى القطعه الواحد تنظيفا وإعداداً ومعالجة كيميائية –بتطبيق مواد معينة لحمايتها من التلف فهذه المادة شديدة الحساسية- لتخرج من بين يدها على هيئة لوحات فنية بأبعاد ثقافية ومعرفية وجمالية عديدة.

تعتبر تقنية الكولاج العمود الفقري لهذه الأعمال، هذه التقنية التي أعادت السويدي لمزاج الطفولة المولع بالقص واللصق، فراحت تنثر الأشكال ذات الشكل المنتظم على كامل فراغ اللوحة بفرح طفل اكتشف للتو ختما ذو شكل مميز فبدأ يمهر به كل ما يجده أمامه.

لا تجبرك اللوحات التي تشكل حقائب الشاي جوهرها على البقاء في عالم السائل الساخن المنعش، لأنها تنقلك الى مدى أكثر رحابة فخيال الفنانة الذي يعمل بمنطق الترصيع الذي يشكل عوالم خاصة ويخلق لوحات بموضوعات رصينة محفزة للمخيلة وبحرصٍ شديد لئلا تسقط في فخ التكرار الذي يفرضه محدودية المواد المستخدمة، ففي لوحة الطيور التي تعيد نفسها بشكل متطابق وبأوضاع متعددة، يختفي الشاي خلف سكينة الطيور الهادئة والراسية بوقار على أغصان قصيرة في نوعٍ من الجنوح إلى سلامٍ رزين يشبه الرفرفة؛ تكثر الفنانة من الاستعانة بالطيور فتوزعها على بعض لوحاتها وتصرّ على ووضعية الطير الساكن الذي حط أخيراً على غصن مريح بعد هجرة مضنية ومن الملفت بأنها لم تنسَ العلاقة الخفية بين الطائر والكتف البشري فإحدى لوحاتها بعنوان: “همسة الشاي”Tea whisper تصوّر طائر وقد وقف بأمان على كتف رجل ربما كان خيال سليمان وذاك الطير هدهداً.

المطبوعات لم تقتصر على الطيور، فقوالب الطباعة (الكليشات) منوّعة تصنع من الأحبار السوداء أيقونات جمالية لا حدود لها، فنجد الكثير من الزخارف النباتية تتوزع في أنحاء العمل في محاولة للتركيز على الهوية المحليّة للشرق؛ في أحد الأعمال تتكدس الكلمات داخل إحدى الزخارف لتمنح النبتة سواداً ممتداً، أو ربما السواد ذاته يتحلل أمام ناظرنا لكلماته العربية الأساسية، بهذه النصوص المنمنمة يُسلّط الضوء على ثقافة السويدي والتي تكتب في العادة نصوصاً لترافق لوحاتها كما فعلت في معرضٍ سابقٍ لها، تلك النصوص تزنّر بعض الشخوص الذين يظهرون ضمن أعمال ميّاسة كظلالٍ من الحبر الصيني تعتلي صهوة مسرح الشاي، تحبسهم ضمن الكلمات في إشارة إلى انعكاسها بشكل قيود مفروضة تحدّ من حركة هذا الظل، أو ربما تكون الكلمات هنا صوت هذا الكائن الغائب أو شبه المغيّب وصورته الأوضح، المفارقة هنا أن الكلمات العربية ظهرت غاية في الصغر، بينما نجد الأحرف اللاتينية تقارب حجم الشخوص وتمتد فوقهم بشكل كامل وكأنه سطوة العولمة تحاول أن تقول كلمةً ما هنا.

الأرقام أيضاً كبيرة وهذا منطقي في عالمٍ مادي كهذا الذي نعيشه، بعضها بالمقلوب، هل الحياة كذلك أم اللوحة فقط، أم أننا نقف أمام المرآة!
في بعض الأعمال نجد خطوطاً مستقيمة قصيرة ومتجاورة ربما هي الرمز الشريطي “barcode” وكأننا في هذا المجتمع نتكدّس كبضائع في متجر لكننا غير عالقين هنا ففي معظم الأعمال نلحظ الكثير من المفاتيح متموضعة بشكل طولي وعرضي رمز للخلاص وللدخول لعالمٍ أرحب وأوسع، مهما بلغت سعته لا مجال لأن نضيع داخله ضمن لوحات السويدي، لسببين أولهما أن الأعمال صغيرة في مجملها( 37×44) سم2 أو( 75×45 ) سم2، والآخر حبال النجاة التي تنقذ كيس الشاي عادةً من الغرق الكامل في الكأس، ستنقذنا نحن هذه المرة؛ الأكياس عند مياسة ليست حكراً للشاي، فها هي قد تحولت لحقائب في يد سيدة لا ندري ما ستحمل بها، ونراهم محلقين في سماء عمل آخر، يحاولون تقليد البوالين.

أعمال الشاي تعرّف عن نفسها دون منّة أحد، تفوح منها رائحة الشاي المنعشة فتمنح شعورا بالاسترخاء دون حاجة إلى التمدد، ودون الحاجة للدخول في جلبة المقاهي، ولا تنسى الفنانة أن توشي أعمالها بألوان الشاي المميزة وكأنها تريد أن تنقل عالم الشاي كلّه في أربع لوحات: شاي أحمر، شاي أسود، شاي أبيض، وشاي أخضر في كلّ لوحة رمز معيّن بلون واضح يظهر النوع المرغوب التركيز عليه.
هناك عمل آخر بمقياس كبير مقارنةً بباقي الأعمال (150×180) سم2 ، بعنوان فن الشاي  The Art of Tea والذي نلمح فيه أكياس الشاي مع ماركاتها، تتجمع وتشكل لوحةً تتنوع في خيال كلٍّ منا بطريقة كما تشاء السويدي التي تترك الحرية للمتلقي ليتفاعل مع اللوحة كيفما يشاء، تدرجات الألوان الترابية في هذا العمل وفق منحنيات رشيقة وتجمّع الألوان (القادمة من ماركات الشاي) والتي تظهر كبقع لونيّة متقاربة في مناطق معينة جعل انطباع العمل في عينيّ يذكرني بلوحة لكليمت.

تجربة الشاي الذي تحول إلى لوحات على يد ميّاسة السويدي تستحق التأمل لما تخلقه من جسور ممدودة بين اللوحات المعلقة على الجدران والجهاز البصري للمتلقي والحسي أيضاً، بمحتواها البسيط المشغول بحرفية وإتقان وتوظيف لمهارات يدوية وقدرات تخيلية مسكوبة كلها على لوحة واحدة، مع الاعتماد أحيانا على حروف الأبجدية وبعض الأرقام لتوصل للمتلقي إشارات معينة، وقد يكون إدخال المفاتيح في بعض اللوحات إيمانا من الفنانة بأن لا شيء سيبقى مغلقا فالعالم مفتوح ومتاح، حتى تحويل مستوعبات الشاي الصغيرة إلى لوحات فنية جميلة أمرٌ ممكن!
وتعبر السويدي عن ذلك بقولها:

“من خلال لوحاتي أقيم جسراً بيني وبين المتلقي دون أي حواجز أو مرايا تعكس حقيقة الواقع فاللوحة مرحلة أعيشها لإسقاط ما في داخلي في الفضاء الأبيض لأكتبه باللون تارة وبالحرف تارة أخرى. ومواجهة اللوحة البيضاء يتطلب الشجاعة خصوصا في البدايات”.

تقديم تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *